أضف النص الخاص بالعنوان هنا

اللبناني أمام استفحال العنف: ما عاد فينا نكمّل هيك

اللبناني أمام استفحال العنف: ما عاد فينا نكمّل هيك

منى فياض

بعد عمليات اقتحام المصارف المشهودة، وما يحصل من أنواع العنف المنفلت في جهات البلد الأربع، وزوارق الموت التي ترمي الهاربين من الجحيم اللبناني في المتوسط، كثر الحديث أن لبنان أصبح بلداً غير آمن. هذا ما ورد في تقرير موسع للنهار مؤخراً؛ وقبله سرد تقرير أعدته صحيفة الرأي الكويتية عينة عن ممارسات العنف التي غطت معظم جوانب الحياة وأصبحت جزءاً من يوميات اللبناني المعتادة؛ أصبح اللبناني  ينشغل في البحث عما يحفظ له بعض ثقة بإنسانيته وسويته وقدرته على  الإنجاز. سواء كان على الشكل المبهر الذي قدمته فرقة مياس للعالم، او الاحتفال بمنتخب لبنان لكرة السلة ونجمه وائل عرقجي أو عبر العودة إلى دفاتر الانجازات القديمة من مثل الصاروخ الذي أطلق في أواخر الستينيات أو استذكار حسن كامل الصباح، وغيره كثر من المبدعين على المستوى العالمي. 

يقوم اللبناني بكل ذلك بحثاً عن نفسه وعن هويته الثقافية وعن كرامته وماء وجهه، أي عن صورته التقليدية التي ترسخت في أذهان العالم. وذلك كي يثبت اختلافه وانفصاله عن الحكام الجدد من طبقة سياسية تعمّق الأزمات وتمعن في تدمير لبنان. جعلوا لبنان مضرب المثل في الفساد وسوء الإدارة المتعمدة والامتناع عن حل أي مشكلة حياتية تستلب حقوق اللبنانيين وتهدد حياتهم ومستقبلهم. ما يسمح بوضعهم في الدائرة الجرمية.  

فهل من المستغرب حينها أن يصبح لبنان مرتعاً لجميع أنواع العنف!؟ 

الأزمات في لبنان ليست جديدة، لكن تراكمها يهدد بجعل الوضع خارجاً عن السيطرة.   

اعتدت منذ عدة سنوات على أسئلة بحاثة وصحافيين يستغربون تصاعد أعمال العنف غير المعتادة في لبنان. ودائماً كنت أقول: أنتظر المزيد. لأن جميع المكونات التي تسهّل ظهور العنف موجودة منذ زمن دون اتخاذ أي تدبير يعالج المشاكل البنيوية التي تتسبب بها. وهي ستتصاعد طالما أن لا قعر للانهيار أو خاتمة. 

فما هي ميكانيزمات العنف المنفلت الذي نعيشه؟ 

لا  إمكانية للفصل بين العنف النفسي والعنف السوسيولوجي، فهناك دائماً أسباب سوسيولوجية للعنف تتقاطع مع العوامل النفسية. 

ويجدر التنبه إلى أن العنف يكون في معظم الأحيان علامة على العذاب. لذا يمكن تعريفه على أنه عنف – مضاد، أو ارتدادي. بمعنى أنه ردة فعل على عنف مادي أو معنوي عانى منه من يمارسه. يصعب على الإنسان السعيد أن يكون عنيفاً.  

معظم الباحثين لا يقبلون فرضية وجود حالات عنف لأسباب نفسية صافية، أي تلك التي لا تتضافر فيها العوامل الاجتماعية!! كما أنه لا وجود لحالات اجتماعية صافية. 

هناك شروط وبيئات مولّدة للعنف والإجرام. 

لذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين البيئة وبين السلوك العنيف في سياق سيستيمي يربط بين العوامل ذات الصلة، مثل: العوامل الوراثية والبيولوجية، الإحباط، وعوامل التعلم المسبق لكل فرد، عاملي الطباع  والشخصية، كما العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إضافة إلى السياسية.  

فائدة التوجه الذي يبحث في تشابك وتسلسل الظروف المؤدية للجرمية  والجناح أو الإجرام، أنها تفردن (من فرد) علاج كل حالة وتظهر أن تشابك الظروف والأسباب المؤدية للجرم، تجعل من هؤلاء الأشخاص أقل اختلافاً عنا مما كنا نعتقد بسبب عادة التفكير المطمئنة: هذا لا يحصل سوى للغير.  

 فيما عدا ذلك تمكن “علم الجريمة العام” من استخلاص القوانين العامة التي تساعد على الجرمية. سأشير هنا إلى الأكثر صلة مع وضعنا الراهن: 

تزداد نسبة الجرائم بازدياد عدد السكان حتى نسبة معينة وتتوقف عند بلوغها كثافة معينة. وفي الحالة اللبنانية شكّل عامل النزوح السوري نتيجة الأوضاع في سورياً، عبئاً إضافياً على اللبنانيين. يرتبط بالكثافة السكانية ارتفاع الجرمية غير القصدية والمرتبطة بالحوادث، لازدياد حركة السيارات، فكيف إذا ارتبطت بفوضى اجتماعية وانهيار اقتصادي ومؤسساتي وأنداد سياسي؟  

في المدن على ما يبدو مناطق تعاني من نسبة جرمية أكبر من غيرها، وهي تلك المناطق التي تحيط بقلب المراكز التجارية والإدارية. فالجرمية مرتبطة بوجود تمركز للمساكن الفقيرة أو ما يعرف بأحزمة الفقر.  

هناك من يربط الجرمية بازدياد عروض السلع بشكل عام وخاصة في المخازن الكبرى؛ لكن في الحالة اللبنانية ما يدعو إلى ذلك انهيار العملة وسرقة أموال اللبنانيين وإفقارهم السيستيمي، مع استعراض فاجر للغنى عند طبقة الحكام والتجار. فالبطالة، التي تعممت تقريباً وغياب الأفق أمام الشبيبة وصل إلى درجات قياسية، تتسبب بما نعاينه من هجومات وسرقات وجرائم مختلفة. 

فلقد وقع معظم اللبنانيين ضحية وضعيات صعبة من دون مخرج. فأي حل يقدم له كي لا يجوع؟ هذا ما يساعد على القيام بأعمال عنف. أضف إلى ذلك التفاوت الكبير بين ما يسمعونه من المسؤولين وبين ما يعانون منه يومياً من مشاكل وهموم لا تجد حلاً لها. 

فما حصل في لبنان انقلاب اجتماعي كبير، قضى على الطبقة الوسطى وأفقر 90% من اللبنانيين. ناهيك عن أثر الكحول والمخدرات والنقص في الأدوية العصبية، وكلها منتجة للعنف.  

كما أن اضطراب عمل المؤسسات الرعائية وإقفال الكثير منها يتسبب بالطبع بأعمال عنف لمن حرم من الرعاية، ويصبح معرضاً للعنف أو ضحية له. 

الخلل الحاصل على مستوى الدورة التعليمية، واضطرار أعداد متزايدة من الأطفال لترك المدارس والذهاب لسوق العمل تسهّل أعمال العنف. كما تزيد حالات الجناح لمن صاروا يعتبرون آباءهم ضعيفي الشخصية أو غير مؤهلين. 

تترافق هذه الأوضاع حكماً بالانحطاط الأخلاقي وتراجع القيم الذي ينتج عنه تراخي الضوابط الأخلاقية واضطراب دور التربية والتعليم الأسريين.  

لوسائط الإعلام دورها عندما تضخ استعراض أعمال العنف والجرائم بشكل تفصيلي، ما يجعله نموذجاً شائعاً قد يثير أكثر الغرائز انحطاطاً ويجعل الرأي العام متآلفاً مع هذه الحوادث ومعتاداً عليها.    

من المعروف أن العنف أكثر انتشاراً في البيئات المسببة للسترس. وربما لبنان في طليعة البيئات المنتجة للسترس على المستوى العالمي، بدليل أنه من أكثر البلدان تعاسة بحسب مؤشر السعادة. 

باختصار، معظم أشكال العنف الممارسة مؤخراً في لبنان، هي من نوع العنف الارتدادي، أي العنف المستخدم للدفاع عن النفس، عن الحرية، عن الكرامة أو عن الممتلكات الشخصية؛ وهو أيضاً المستخدم لنجدة أشخاص مهددين بالخطر. يجد هذا الشكل من أشكال العنف جذوره في الخوف من المستقبل أو على الحياة. ربما هو لذلك أحد أشكال العنف الأكثر شيوعاً والذي ليس هدفه الهدم بل البقاء. 

 كل هذا يوقع اللبناني في الإحباط ، وهو أحد مسببات العنف الارتدادي الأساسية. إنه لواقع أن الحيوانات والبشر، الأطفال والبالغين، يتبنون سلوكاً عدوانياً عندما تحبط إحدى رغباتهم أو حاجاتهم. ويشكل هذا النمط محاولة لبلوغ الهدف الذي تمت معارضته بواسطة العنف.  

أليس هذا هو العنف الذي نغرق فيه الآن في لبنان؟ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار

أحدث المقالات

فيديو