من الأمور الرائعة في عصرنا الحديث هو موضوع توصل العلم للقدرة على نقل أعضاء من إنسان متوفٍ لإنسان مريض لم يزل على قيد الحياة ويحتاج الأخير لهذا العضو ليظل حياً ينبض.
والعجيب في الأمر أن إنقاذ حياة إنسان وإعطائه حياة أخرى أصبح مجالاُ للجدل واعتراض البعض خاصة من رجال الدين الذين لا يرون أن إنقاذ حياة إنسان شيئا لا يستحق فقه ديني جديد ليدعمه بقوة.
والقضية – أي نقل الأعضاء – أثيرت في التسعينيات من القرن الماضي بين علماء الأزهر الذين أباحوا التبرع وليس البيع ولكن للأسف رفضها الإمام محمد متولي الشعراوي، مؤكدا أن جسد الإنسان ليس ملكه ولا يحق له التصرف فيه فنقل الأعضاء من وجهة نظره هو اعتراض على مشيئة الله وقدره.
وعلى النقيض تماماً من ذلك فإن المملكة العربية السعودية أقرت بالموافقة على مبدأ التبرع بالأعضاء. فقد أصدرت مصلحة الشهر العقاري كتابا دوريا بينت فيه أن من يقوم بتعطيل الإجراءات التوثيقية للتبرع بالأعضاء يعطل العمل العام.
وكانت المملكة العربية السعودية من أوائل الدول الإسلامية التي قننت التبرع بالأعضاء وأسست المركز السعودي للتبرع بالأعضاء، الذي صدر قرار بإنشائه عام 1983، وتمت أول عملية تبرع من متوفى عام 1984.
ولم يقف أمر التبرع بالأعضاء عند ذلك فحسب، بل لقد سجل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان أسميهما في برنامج التبرع بالأعضاء التابع للمركز السعودي للتبرع بالأعضاء وفقا لما ذكرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية. وكان هذا الدعم هاماً للغاية حتى يتشجع الكثيرون على الاقتداء بمثل هذه الخطوة الرائعة من عاهل المملكة العربية السعودية وولي عهده.
ورأى مفتي مصر الأسبق الإمام محمد سيد طنطاوي أن الأمر حلال وعمل رائع، بل زاد على ذلك بموافقته هو شخصيا على التبرع بأعضائه بعد وفاته لكن القدر لم يمهله، وتوفي رحمه الله في السعودية ودفن في البقيع.
وفي جانب آخر وفي لقاء على هامش إحدى الفعاليات الثقافية في مصر، تصدرت الفنانة إلهام شاهين عناوين الأخبار مؤخراً، بعد تصريحها حول موافقتها على التبرع بأعضائها بعد وفاتها.
واقترحت السيدة الفاضلة والفنانة المعروفة إلهام شاهين أن يتم تسجيل ذلك عبر بطاقات الرقم القومي في خانة “أرغب” أو “لا أرغب”، بالإضافة إلى مطالبتها الدولة المصرية بتقنين الوضع للراغبين في التبرع، وألا يترك القرار في يد أسرة المتوفى.
وهناك ثلاث أمور هامة أود أن أوضحها في هذا السياق بخصوص موضوع التبرع بالأعضاء.
الأمر الأول هو أن التبرع بعضو مثل الكلي لمريض الفشل الكلوي المزمن هو بمثابة إنقاذ حياة إنسان من موت محقق وأن القرآن الكريم ذكر بوضوح لا ريب فيه ما يلي: “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ ” سورة المائدة آية 32.
وذلك يعني ببساطة أن عملية التبرع بالأعضاء قد تكون من أعظم الأمور عند الله سبحانه وتعالى لأنها تعطي “حياة” لإنسان وتنقذه من موت محقق.
الأمر الثاني هي وماذا عن العكس؟ بمعنى هل من يرفض مبدأ التبرع بالأعضاء لإنقاذ نفس بشرية كان سيرحب بفكرة التبرع بالأعضاء لو أن ابنه أو أمه أو ابنته كان أحدهم على فراش الموت ويحتاج للتبرع بكلية إنسان متوفي حديثاُ حتى يتم إنقاذ عمره أو عمرها من موت محقق؟ أم أنه كان سيغير رأيه في هذه الحالة ويكيل بمكيالين ويرحب بمبدأ التبرع بالأعضاء لينقذ إنساناً عزيزاً عليه؟
أما الأمر الثالث فهو لماذا لا ينظر المعترضون إلى مبدأ “الصدقة الجارية” ويعتبرون عملية التبرع بالأعضاء واحدة من هذه الصدقات! ويالها من صدقة لا تعطي فقط بعض المال للمحتاجين، بل تعطي حياة لإنسان وتنقذه من الموت وترسم السعادة على وجه أطفاله وأهله وأحبائه وتكرس مفهوماً رائعاً للإنسانية في أجمل صورها!