أضف النص الخاص بالعنوان هنا

الموسيقى.. رعشة الوجود

الموسيقى.. رعشة الوجود

مفتاحة أمال اليازغي

عندما نتحدث عن الموسيقى فإننا نستحضر بطريقة مباشرة الفن الصوتي الذي يبهرنا بمختلف ألحانه وإيقاعاته وكلماته، ويؤثر في مشاعرنا و دواخلنا، لكن هذا ليس كل شيء؛ فالموسيقى لغة عالمية توحد كل الشعوب، وتضع انفعالاتهم و أحاسيسهم، بطريقة تغدو معها علاجاً للروح، ومصدر متعة داخلية آسرة إلى أن توجه العالم للتداوي بها عن طريق حصص علاج موسيقية؛ يقوم المُتداوي فيها بالفن التعبيري، الارتجال، التلحين، وأيضا الكتابة، وكل هذا من أجل التعبير على المشاعر الدفينة. بل وتعدى الأمر البشر أو الكائن المفكر، فالموسيقى لها تأثير أيضا على الطبيعة والحيوان؛ فقد كانت هناك عدة دراسات أوضحت بشكل صريح مدى تأثر الحيوانات بالموسيقى أو على الأقل التفاعل معها، مما يؤكد أنها لغة كونية تسحر مختلف الكائنات.
يمكننا بلغة صريحة ربط الموسيقى بالفلسفة لما للموسيقى من قوة خفية في التأثير على الكائنات، هاته القوة الميتافيزيقية هي التي دفعت الفلاسفة للبحث في جوهرها ومحاولة فهمهم لغة لا تخاطب الوعي، على نقيض لغتهم؛ ممّا أدى بهم إلى الغوص في عدة صياغات، وتبنى بعض النظريات، ودحض بعضها. فأفلاطون مثلا وعلى عادته ربط الموسيقى بالأخلاق وفيما قد تُضيفه للفرد من قيمة مضافة ودخل فكري أو نفسي، أو أي ناتج قد يعود بالفائدة على الشخص، كما أنه ركز على دور الشاعر ورقابة الفيلسوف وكل هذا يدخل في خطته لبناء المدينة الفاضلة، لكن ومع ظهور الحركة الرومانسية في أوربا وعودة السمفونية إلى الوجود مع بيتهوفن، شوبين، موزارت وغيرهم. باتت الموسيقى أداة تفوق مفاهيم العقل وتخترق قوة الذات الخفية، مما قاد بعض الفلاسفة الى دحض نظرية أفلاطون في عقلنة الإنتاج الموسيقى؛ فـشوبنهاور مثلاً يعتبر أن الموسيقى هي الوسيلة الوحيدة للخلاص من عالم كلّه بؤس وضجر، فالبرغم من نظرته ونزعته التشاؤمية، فإنه اعتبر الموسيقى ملاذا للهروب من المعاناة. وفي نفس السياق نجد نيتشه الذي عارض الأفلاطونية والقيمة الأخلاقية التي قد تخلفها في الفرد، وذلك لأنه كان موسيقاراً منذ نعومة أظافره. وحتى في كتابه الأول ميلاد التراجيديا فقد نوه بالموسيقى واعتبر فيه أن الحياة بلا موسيقى، هي بكلّ بساطة خطأ ومشقّة ومنفى. يقول نيتشه “لمن يكره الموسيقى أقول: إنّ الحياة ستكون مجرد غلطة من دونها.” 
عندما نحاول استحضار كرونولوجية تطور الموسيقى على مدار التاريخ، فإنه من الممكن أن ينتابنا نوع من الذهول، بحكم ما شهدته من ازدهار ومجد، إذْ كيف لنمط بدأ مع تراتيل الكنائس أو النسب العددية على وثر هزاز أن يصل إلى كل ما هو عليه الآن، من لحن وإيقاع، توافق موسيقي، وطابع صوتي. كل هذه المكونات تندمج لتعطينا فناً صوتياً متنوع الأنماط والألوان الموسيقية المختلفة وكيف لآلات موسيقية بدأت من أبواق عنخ توت آمون مُرُوراً بمسماع الحصى إلى آلة القيثارة أن تصل الى هذا التطور غير القابل للتصديق.
بعد ذلك أصبحت الموسيقى أكثر من فن صوتي يسعد النفوس أو يلطف الجو فقط، بل تعدى ذلك الأمر الى أن أصبحت الموسيقى عن مختبر يعبر فيه الإنسان عما لا يمكنه قوله أو قد يسكت عنه، وحيزاً متنوعاً كذلك. فالعالم الموسيقي يشهد تباينا كبيرا من الناحية النمطية؛ هناك تنوع كبير وأنواع موسيقية وفيرة لمختلف شرائح، أعمار، وأذواق المجتمع كما أن لكل لون موسيقي لباس خاص واكسيسوارات فردية تعبر نوعا ما عن موسيقاه وتوحد شريحته، وفي جل الأحيان الموسيقى ولباسها قد يؤثران عن تفكير الفرد وتصرفاته، كما أنها قد تجمعه مع أشخاص يشاركونه نفس الشغف، وهنا نستحضر قول الناقد الأدبي عبد الله الغذيمي «إن الشباب الذين يستمعون إلى موسيقى الروك يلبسون الجينز الأمريكي ويأكلون الوجبات السريعة هم أنفسهم الذين يقفون ضد سياسات الهيمنة» وهذا مثال حي على ما قد تكلما عنه سابقا.
وباعتبار أن الموسيقى ملاذاً وأداةً تنزع فتيل كل التوتر، ونِطَاقاً تطفو فيه قيماً ومشاعراً نبيلةً، فهل ما تشهده الموسيقى الحالية بشكل عام والكتابة الموسيقية بشكل خاص يتماشى مع كل ذلك؟ وبعد كل ما نرى في مجتمعاتنا في عصر الشاشة الذكية والهشاشة الفكرية حيث الأطفال يمسكون الهواتف و يستعملونه بكل حرية، حتى وأننا نسمع بعض الأقارب يتلفظون بعبارة «أعطه الهاتف كي يتوقف عن الصراخ أو الحركة» فأصبح الأطفال يستمعون لمن هب ودب من أشباه الفنانين الموسيقيين و يحفظون أهازيجهم المزرية عن ضهر قلب وتقليدهم في مواقع التواصل الاجتماعي بطرق جوفاء، غريبة وجسيمة الميوعة. وعندما نتحدث عن الطفل فنحن نتنبأ باللبنة الأساسية للمستقبل وصلابته، فلا يمكننا حينئذٍ أن نتعامى عن مراقبة ما قد يراه (الموسيقى التصويرية) أو يستمع له. 
فهل كان أفلاطون على حق بكونه سباقا في الالحاح على ضرورة صفاء ونقاوة المادة الشعرية أو الكتابة الموسيقية؟ حتى وأنه حمل المسؤولية الكبرى للشعراء وجعلهم تحت رقابة الفلاسفة ربما لأنه كان مدركا بشكل كبير مدى قوة الموسيقى على التأثير في شخصية الفرد وفكره الذاتي أكثر من رغبته الكبيرة في بناء مدينته الفاضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الأخبار

أحدث المقالات

فيديو